سام الغباريسام الغباري

بين كييف وموسكو - صراع كنيستين


تحاول وسائل الإعلام الضخمة تخمين الدوافع التي تحرك الرئيس الروسي بوتين فيما يتعلق بأوكرانيا، غير أن اغفلت - عن عمد - جانبًا مهمًا في  الموقف الراهن تم تجاهله إلى حد كبير، ألا وهو الدين.



فالواقع أن العالم يشهد حاليًا نسخة جديدة من حكاية قديمة: السعي إلى إعادة إحياء امبراطورية مسيحية، نسخة قروسطية جديدة من”الامبراطورية الرومانية المقدسة”، تجمع بين السلطات الروحية، والاقتصادية، والسياسية في كيان واحد من أجل السيطرة على المصير الدنيوي والآخروي لشعوب أوروبا.




تحالف الأممية المسيحية ثمة حلم يستحوذ على بعض الأوساط في الغرب، يتمثل في إنشاء تحالف يوحد بين المحافظين دينيًا، في عالم مسيحي جديد عابر للحدود الوطنية. جوهر هذه النظرية خلق شراكة بين الإنجيليين الأمريكيين، والكاثوليك التقليديين في البلدان الغربية من جانب، والشعوب الأرثوذكسية من جانب آخر، تحت رعاية الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، في جبهة موحدة في مواجهة ثلاثة أعداء: العلمانية المنحلة، والصين الصاعدة، والإسلام، من أجل انبعاث مجيد للنقاء الأخلاقي والحضارة المسيحية.




ففي الولايات المتحدة، كثيرًا ما يوصف الدين الترامبي بأنه “نزعة قومية مسيحية”. وهذا صحيح. لكنه أكثر من ذلك أيضًا. إنه الشريك الأمريكي في هذا المسعى الأشمل لتأسيس أممية مسيحية. ولم يعبر أحد عن هذا المعنى بأوضح مما عبر عنه ستيف بانون، والذي لا يزال يمثل، رغم مشاكله القانونية، قوة مؤثرة باعتباره، بصورة ما، فيلسوف مشروع العالم المسيحي الجديد، وحامل لواء الدعوة له في الدوائر المسيحية اليمينية.



بيد أن هذا الحلم الأخرق بلملمة شتات امبراطورية رومانية مسيحية، واجه بعض العقبات.




فمن المثير للاهتمام، أن الإنجيليين الأمريكيين تبنوا هذا المشروع القروسطي الجديد بكليته، إذ كانوا، بفضل ولعهم بالتراتبيات العرقية والجندرية، مهيئين تمامًا لتقبل تلك النزعة القومية اليمينية المتطرفة.




فمن الجلي أن البروتستانية، بكل صورها، حتى أكثرها ديمقراطية، على استعداد أن تبيع روحها في مقابل الإبقاء على السود والنساء “كلٍ في مكانه”.




الشريك الكاثوليكي المشاكس أما الكنيسة الكاثوليكية، فقد كانت هي الشريك الأكثر استعصاءً على التجنيد في مشروع العالم المسيحي الجديد هذا.



وقد تبين أن أن انتخاب البابا فرانسيس في العام 2013 كان عقبة كأداء في طريق تأسيس نظام سياسي عالمي ذي توجه يميني. فقد أعرض البابا الجديد عن كل مثل تلك المخططات، في صالح فتح أبواب الكنيسة للفقراء، والمنبوذين والمهمشين انطلاقًا من رؤية اجتماعية تضع الراسمالية وتدمير كوكب الأرض موضع المساءلة.




بيد أن هذا التوجه لم يرُق للكاثوليك القروسطيين الجدد وأبدوا، على مدار عقد من الزمن، مقاومة شرسة لفرانسيس، من المحتمل جدًا أن تفضي في النهاية إلى ما يشبه انشقاق أفيجنتون في القرن الرابع عشر. لكن البابا فرانسيس لا يزال، حتى الآن، ممسكًا بزمام الأمور.



كييف.. أورشليم الأرثوذكسية الروسية



حتى وقت قريب، بدا أن فلاديمير بوتين قد نجح في دمج الأرثوذكسية في هذا الثالوث العالمي، الأمر الذي تمخض عن تلك العلاقة الدافئة، غير المتوقعة، بين الإنجيليين الأمريكيين ورجل روسيا القوي.




ففي هذا الأسبوع، أثنى مايك بومبيو، وزير الخارجية السابق، والإنجيلي العتيد، على بوتين.




وهكذا، فإن بوتين قد يبدو، في نظر للمراقب الخارجي، قابضًا بإحكام على زمام مستقبل الأرثوذكسية في علاقتها بمشروع العالم المسيحي الجديد.




لكن الأمر ليس كذلك. فالأرثوذكسية الأوكرانية لديها رأي آخر. وتلك هي المشكلة الحقيقية، لأن كييف، في نظر الأرثوذكسية الروسية، هي، بالأساس، أورشليم.



فقبل ما يزيد على الألف عام، وتحديدًا في ثمانينيات القرن العاشر، تمكن فلاديمير، أمير كييف الوثني، من توحيد الروس الذين كانوا يعيشون في ما يعرف اليوم بروسيا البيضاء، وروسيا، وأوكرانيا، في كيان واحد.




وحين أخبره مبعوثوه إلى القسطنطينية المسيحية عن عظمة تلك البلاد، اعتنق المسيحية وأدخل شعبه في الكنيسة البيزنطية عن طريق تعميد جماعي، وتزوج من أميرة مسيحية من العائلة المالكة.



وتحت حكمه، أصبحث كييف مدينة مزدهرة تنعم بالسلام، في قلب امبراطورية مسيحية جديدة، تزخر بالكنائس، والساحات، والأديرة والمدارس، إضافة إلى مشاريع مدنية لرعاية الفقراء.




وقد اشتهر بإسم فلاديمير العظيم، وفي نهاية المطاف نُصب قديسًا باسم سان فلاديمير، ويحتفل بذكراه كل من الأرثوذكس الشرقيين، والكاثوليك، والإنجيليكان وبعض اللوثيريين.




لكن في القرن الثالث عشر، تعرضت كييف لبعض الاعتداءات من أمراء روس وغزاة من المغول.



وعلى إثر ذلك، اتجه عدد كبير من الروس شمالًا وشرقًا إلى مدينتي فلاديمير وموسكو الجديدتين، حيث ازدهرت الكنيسة الروسية، تحت حكم القياصرة، حتى صارت، في نهاية المطاف، واحدة من أغنى وأقوى الكنائس في العالم الأرثوذكسي.



ومع هذا التحول، فإن تقليدًا أرثوذكسيًا تأسس تحت رعاية القسطنطينية، تحول إلى كنيسة خاضعة لسلطة بطريرك في موسكو.




وقد أدى ذلك إلى توتر في العلاقات بين أوكرانيا وروسيا لعدة قرون من الزمن، ووصل إلى ذروته، بطريقة ما، في الحقبة السوفيتية، حيث عمدت بعض التيارات الأرثوذكسية إلى مقاومة الشيوعية، فيما اختارت التيارات المنافسة لها التعاون مع موسكو.




وحين انهار الاتحاد السوفييتي، كان في أوكرانيا العديد من الكنائس الأرثوذكسية المختلفة، واحدة منها فقط كانت تربطها بموسكو علاقات وثيقة.



الانفصال في العام 2018، انضمت اثنتان من هذه الكنائس إلى بعض الأبراشيات الأرثوذكسية المتعاطفة مع موسكو، وشكلت معًا الكنيسة الأرثوكسية الجديدة الموحدة في أوكرانيا، وهو كيان كنسي قومي مستقل تمامًا، لا يخضع لأي سيطرة من موسكو، ويقيم رئيسها في مقر الكنيسة الأرثوذكسية العتيق في مدينة كييف.




بيد أن بوتين وسلطات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية في موسكو اعترضوا على هذه الخطوة. فقد ادعوا لأنفسهم امتلاك مسيحية كييف التي يبلغ عمرها 1000 عام –أي الاستيلاء على تاريخ الكنيسة الأوكرانية- إلى حد تشييد تمثال هائل الحجم (ومثير للجدل) لسان فلاديمير خارج مبنى الكرملين.




فبوتين يريد أن يضم ثقل التراث إلى جانبه، و من شأن سان فلاديمير أن يعزز شرعية كل من طموحاته الدينية والسياسية.




فلا ينبغي أن يساورنا الشك في أن بوتين يرى نفسه قديسًا محتملًا، فلاديمير العظيم الثاني، الذي سوف يبعث روح الأم المقدسة روسيا. لكن الأوكرانيين، من جهة أخرى، يريدون أن يذّكروا الروس أن أوكرانيا كانت مهد كل من الأرثوذكسية والوحدة السياسية في أوروبا الشرقية.




ومما زاد من غضب بوتين أن بطريرك القسطنطينية المسكوني اعترف بالكنيسة الأرثوذكسية في أوكرانيا كيانًا مستقلًا.



ورغم أهمية هذا الصراع بين موسكو وكييف على صعيد التاريخ بين الروس والأوكرانيين، فسوف تترتب عليه ايضًا تداعيات مستقبلية أوسع نطاقًا على مستوى العالم.





صراع زعامة الأرثوذكسية على إحدى جبهتي النزاع، هناك بطريرك القسطنطينية المسكوني، رجل الدين اليوناني ثقافةً ولغةً، الذي ادعى لنفسه، تاريخيًا، زعامة العالم الأرثوذكسي.



وعلى مدار الجزء الأكبر من قرن من الزمان، توجه بطريرك القسطنطينية بثبات نحو الغرب، وتبنى، كما يقال، الكثير من قيمه.




واليوم، فإن الجالس على العرش الرسولي للقديس أندرو، يتحدث بلغة حقوق الإنسان، والحرية الدينية، والثقة في العلم. والسبب في هذا الوضع يعود، بدرجة كبيرة، إلى الدور الحرج والدقيق الذي يلعبه البطريرك باعتباره ممثلًا لأقلية دينية في تركيا.




وفي الوقت نفسه، فإن بطريرك موسكو، وقد استعاد جزءً كبيرًا من نفوذه السياسي في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، قد أخذ على عاتقه ليس فقط حمل لواء قضية التيار الأرثوذكسي التقليدي، بل أن يكون أيضًا نصيرًا ورمزًا للمحافظين دينيًا على مستوى العالم.




أوكرانيا.. صراع حول الدين إن الصراع في أوكرانيا يدور بالأساس حول الدين، ونوع الأرثوذكسية الذي سوف يشكل أوروبا الشرقية وغيرها من المجتمعات الأرثوذكسية حول العالم (لاسيما في أفريقيا).



الدِين إذًا، إنها حملة صليبية، لاستعادة الأرض المقدسة للأرثوذكسية الروسية، ودحر الهراطقة (والمنحلين) المتفرنجين الذين لا يجثون أمام السلطة الروحية لموسكو.


من لا يفهم هذا، فإنه لا يفهم شيئًا.

السؤال : من الذي سوف يسيطر على الوطن الجغرافي (أورشليم) للكنيسة الروسية؟ موسكو؟ أم القسطنطينية؟


وماذا يعني المطالبة بالولاية على تلك الأرض بالنسبة للأرثوذكس حول العالم؟



وهل ستنحو الأرثوذكسية العالمية إلى مستقبل أكثر تعددية وانفتاحًا أم أنها سوف تكون جزءًا من الثالوث السلطوي للعالم المسيحي الجديد؟



لا أحد يعرف كيف سيتطور هذا الأمر. لكن –وتلك هي النقطة الأساسية- العقوبات الاقتصادية لن يكون لها، على الأرجح، أي تأثير ما دمتَ تؤمن أن السماء تقف في صفك. هذا ما يعتقد بوتين أنه قد حصل عليه: موافقة الرب.



نحن نعرف فقط أنه يريد أن يحتفل بعيد الفصح –هذا العام أو العام القادم- في كييف.

شبكة صوت الحرية -

منذ سنتين

-

560 مشاهدة

مقالات ذات صلة

أهم التصريحات المزيد